الجمعة، 24 مايو 2019

عن جدو ... إلى نسمة

قليل من الرجال يهدي امرأته بيتا .. يغريها به
البيت ليس منزلا نحل به أو عليه .. ليس شقة، جزءا نقتطعه من المدينة ونضع له بابا.. البيت ليل .. مكان نعني به زمنا بالأساس .. البيت سكن .. والبيت عودة .. والبيت وعد بعمر"
نسمة جويلي - إرث الحكاية 
.
.
عزيزتي نسمة
بدأت في قراءة كتابك أمس .. لا أعرف لماذا لم أقرأه من قبل رغم أنه يجلس بين كتبي منذ عدة أشهر.. ربما لأن القدر شاء أن أعرفك عن قرب قبل أن أقرأه وأتخيلك مبتسمة تقرأين علينا الخطابات. 
كما أقول لك دائما .. "كتابتك شبهك"
لم أقرأ بعد سوى رسالتين .. استوقفتني الرسالة الثانية .. رسالتك لجدو .
أنا أيضا لم ألتق بجدي لأبي أو لا أتذكره، رحل وعمري ثلاثة أعوام فقط. والغريب أنني لم أسمع حكايات كثيرة عنه ،فقط أعرف أنه كان مستشارا وأنه هاجر من بلدنا إلى الإسكندرية حيث ولد أبي ثم جاء إلى القاهرة وأستقر بها. بعد رسالتك قررت أن أسأل أبي عنه في إجازته القادمة.
ولكني عرفت بلدنا وعرفت بيتنا فيها .. لنا بيت كبير هناك يطل على "البحر" يسمي أهل البلد الترعة بحرا .. كان حول البيت حديقة واسعة من أشجار البرتقال وتكعيبة عنب ونخلتان عاليتان .. لم يعد ذلك موجودا ولكن البيت مازال قائما. لم أذهب منذ عدة سنوات ولكني أعرف أهلي هناك جيدا. ولي صورا كثيرة في طفولتي .. وللمكان صورا جميلة في ذاكرتي. وحكى لي أبي أن هذا كان البيت الأول والوحيد لزمن طويل الذي يطل على البحر لأن أهل البلد كانوا يخافون من "الجنية" حتى بنى جدي البيت ثم بدأت بيوت جديدة في التواجد وأصبح الطريق عامرا 
تربيت أيضا هنا في بيت جدي في القاهرة لذلك عندما قرأت رسالتك تعجبت لماذا لم أعرف عنه الكثير. دفن جدي في البلد ودفنت بجانبه جدتي أيضا وهم بمثابة أولاد عم .. عرفت جدتي عن قرب عشت معها سنوات كثيرة وأقول أنها أكثر من أحبني بعد أبي وأمي ... كانت جميلة وكانت تحكي لي عن أبيها وجدها الأزهريين .. خاصة جدها الذي يحبه أهل البلد جميعا ويحترمونه لعلمه.. 
شكرا يا نسمة على نافذة الذاكرة التي فتحها كتابك .. وللحدبث بقية 
شيماء

القاهرة ..


علاقتي بالقاهرة معقدة جدا .. أحبها وأخاف منها .. أظن أنها علاقتي بمصر في العموم .. منذ ما يزيد عن العشرة أعوام كنت أذهب مع صديقاتي إلى جروبي لنأكل الحلوى ونشرب الشاي، يبدو أمرا مضحكا أو يشبه أفلام فاتن حمامة وعماد حمدي ولكن "وسط البلد" بالنسبة لي مكانا دافئا جدا وشديد السعادة وأصبح الآن مليئا أيضا بالألم.. 

هذا تعقيد القاهرة تحديدا أسما ومكانا .. جميلة وأصيلة ودافئة ولكن الحزن يسكنها في كل جانب تماما كسيدة عجوز أنهكها الزمن ولكن قلبها مازال به نور خفي..
أصور دائما الحب كحديث طويل يدور بين أثنين في تمشية طويلة إلى آخر العمر .. وأتصور أيضا أن الحب يبنى ولا يحدث فجأة وجزء من بناءه الحديث الذي لا ينتهي أبدا ربما لأنني أقدر الكلام وأزنه وأعنيه حين أقوله.. لذلك أتخيل أنني إذا أحببت يوما سنذهب في تمشية طويلة بين أحيائي المفضلة..
نأكل الأيس كريم في الزمالك ونمشي بلا نهاية نتحدث عن تفاصيل صغيرة لا تعني شيئا لأحد سوانا وربما لا تعني له هو أيضا شيئا ولكني سأحك له عنها وسيتظاهر أنه مهتم جدا وسأصدق أنا ذلك .. ونجلس على الرصيف في وسط البلد لنفكر كيف سنغير العالم الذي لن نغيره بالطبع ولكن سيكون لنا نظرياتنا الخاصة في حل كل تلك الصراعات بين البشر وسنعلن للشارع الخالي من الناس أن كل الآخرين أغبياء فهم لم يصلوا إلى حل عبقري مثلنا.. وسنذهب إلى السلطان حسن وننظر إلى أعلى وأخبره أن هذا المكان يتصل قلبي فيه بالسماء رأسا دون حواجز ... وربما أيضا نتوه في شوارع الحسين والغورية التي لا أحفظها وسيثور هو وأضحك أنا.. 
سأخبره كم أحببت هذه المدينة وكم أبعدتني عنها سرعة الحياة فيها وثقلها وكأنها في صراع مع نفسها لا معي .. ربما هي تشبهه أيضا حين يخاف فيدفعني بعيدا جدا على عكس ما يريد.. وسأخبره أنني أخاف منها ومن قسوتها وأتوه أحيانا في تفاصيلها .. وسيسمع كل ذلك ويحبني مجددا

في عالم أقل شرا ..

في عالم أقل شرًا كنا سنمشي يا صديقي معا ونحكِ حكاياتٍ سعيدة وعادية .. تشبه نكاتنا التي نقولها بعفوية ولا نلق لها بالا..كنت سأخبرك أنني مازلت أخاف الظلام وقد تجاوز عمري الثلاثين .. وكنت سأطلب منك أن تشتري لي الشيكولاتة المفضلة لدي وإن كانت غالية الثمن .. وكنت سأخبرك أن العالم شديد القسوة فتقول لي أن هناك تفاصيلا صغيرة تجعله جميلا..في عالم أقل شرا كنت سأخبرك حين أغار من إحداهن وستنظر لي كلما حدثتك في محاولة لتفادي غضبي وكنت سأضحك على خوفك الطفولي .. كنت سأخبرك أن السماء والجبل والبحر شديدوا الجمال والهيبة وأنني أشعر أنني صغيرة جدا بجانبهم وبجانبك..كنت سأنظر للسماء وأعد النجمات القليلات في سماء المدينة الغائمة وكنت ستخبرني أن الصحراء سمائها تفترشها النجوم وكنت سأعترف لك مرة أخرى بخوف جديد .. في عالم أقل وطأة كنت ستفهم ما أقصده حين أخبرك عن خوفي ولن تتعجب كيف أكرر الكلمة كثيرا..




الاثنين، 24 ديسمبر 2018

أسبوعان في المستشفى

لماذا يجب على المستشفيات أن تكون باردة وقاتمة؟ طرقات طويلة لا نهائية يهيم الناس على وجوههم فيها وكأنهم لا يعرفون سبب مجيئهم لذلك المكان.. الكثير من المعاطف البيضاء والشباشب"الكروكس" غير الأصلية تسمع أصواتها وهي تختلط بالكثير من الأصوات غير المفسرة يحتار أصحابها مثل أي مهنة ترتبط بالبشر بين تعاملهم مع المرضى كحالات أو كإنسان ... نلتقي نفس الناس كل يوم فميعاد الزيارة محدد .. عيون حائرة لا تفهم كل تلك التعقيدات من كلام الأطباء بلغة أجنبية يحاولون فهم ما يحدث على قدر استطاعتهم باحثين عن أي مصدر للطمئنينة.. نتقابل يوميا في نفس الحيز الضيق وبنفس نظرات الترقب، بعد فترة سنألف بعضنا وعلى الأغلب عندما نلتقي في الخارج بعد ذلك سينظر أحدنا للآخر في محاولة لتذكر من أين يعرفه؟ ..

 عشرات الهواتف ترن بأصوات متشابهة والردود كلها إما شرح تعقيد جديد أو سؤال عن عرض ظهر .. نترك جميعا كل أمور الدنيا على باب المستشفى وكأنه اتفاقا ضمنيا أن هذا المكان مخصص لحديث واحد فقط وإذا تحدثنا في غيره سيكون أي أمر لا يعني لنا شيئا .. يصبح اليوم كله هو فقط ساعات الزيارة وكأن شيئا لم يحدث قبله أو أنه بدأ فجأة في الخامسة مساءا .. ينتهي اليوم عندما تنتهي الأخبار عن من يهمنا في غرفته البعيدة فلا جديد سيحدث حتى الصباح.. نعود فجأة لليوم الطبيعي بسرعته المألوفة خارج جدران المبنى الأصفر ..

اقود السيارة وأتذكر صديقنا أحمد وهو يحكي لنا قصة عن القط في مستشفى فارسكور .. ابتسم وأفكر لو أنني أملك نصف خياله كنت سأجد مئة حكاية اليوم ولكن كالعادة تتفلت الحكاية مني وأجد نفسي منهمكة في سرد توثيقي طويل شديد الخصوصية .. تعاد أحداث اليوم أمامي لقد بدى أحد الأصدقاء متجهما يبدو أن أمرا ما أهمه .. لقد غاب آخر هل هو بخير؟ .. هل كنت شديدة الغباء عندما قلت تلك الكلمة؟ .. لقد كان أختياري خاطئا ويبدو أنها تأذت .. أقرر إرسال عدة رسائل للأطمئنان والسؤال وتأكيد أنني لم أقصد ولأتأكد أن يوم الجميع مر بسلام .. على الأغلب سأصل إلى البيت وأقرر أن اليوم كان ثقيلا بما يكفي وأنني شديدة الحساسية وأن أحدا لا يحتاج تلك الرسائل .. وسأفكر مرة أخرى لماذا يجب أن تكون المستشفيات شديدة البرود والقتامة؟ ..

عن جدو ... إلى نسمة

قليل من الرجال يهدي امرأته بيتا .. يغريها به البيت ليس منزلا نحل به أو عليه .. ليس شقة، جزءا نقتطعه من المدينة ونضع له بابا.. البيت ليل .. ...